{وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ(55)}وساعة تسمع قوله الحق: {وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيات} فاعلم أن هناك تفصيلاً سيلي ذلك يشابه تفصيلاً سبق. والآيات السابقة قد فصّل الله فيها أموراً كثيرة؛ فصّل لنا حجة وصحة وحدانية الله سبحانه، وفصّل لنا صحة النبوة، وفصّل لنا صحة القضاء والقدر. ومن بعد ذلك كله يعطينا الحق المقاييس التي تقرر الحقائق التي ينكرها أهل الباطل؛ فيفصّل لنا في العقائد، ويفصّل لنا في حركة الحياة والحركة العبادية التي نؤدي بها تكاليف الإيمان. وكما فصل لنا سبحانه صحة الوحدانية وصحة النبوة، وصحة القضاء والقدر، يفصل لنا الآيات التي تقرر الحقائق: {وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيات وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المجرمين} [الأنعام: 55].ونقرأ (سبيل) في بعض القراءات مرفوعة، أي أن سبيل المجرمين يظهر ويستبين ويتضح، وتقرأ في بعض القراءات منصوبة، أي أنك يا محمد تستبين أنت السبيلَ الذي سيسلكه المجرمون.وكلمة (سبيل) وردت في القرآن مؤنثة على الحق: {الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} [الأعراف: 45].ووردت أيضاً في بعض الآيات مذكرة: {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [الأعراف: 146].ويريد الحق بذلك أن يعلمنا أن القرآن الذي نزل بلسان عربي مبين قد استقبلته قبائل من العرب، بعضها لها السيادة كقبيلة قريش لأنها تسكن مكة، والكعبة في مكة وكل القبائل تحج إلى الكعبة.ويريد أن ينهي سبحانه هذه السيادة، ولذلك جاء بالقرآن ببعض الألفاظ التي تنطقها القبائل الأخرى، ومثال ذلك كلمة (سبيل) التي تؤنث في لغة (الحجاز)، وجاء به مرة كمذكر؛ كما تنطقها (تميم). ولم يأت الحق بكل ألفاظ القرآن مطابقة لأسلوب قريش، حتى لا تظن قريش أن سيادتها التي كانت لها في الجاهلية قد انسحبت إلى الإسلام، فقد جاء القرآن للجميع. {وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيات وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المجرمين}. أي أن الله سيعامل كل إنسان على مقتضى ما عنده من اليقين الإيماني.والمعاندون لهم المعاملة التي تناسبهم، وكذلك المصرّ على الذنوب، والمقدم على المعاصي، وهي تختلف عن معاملة المؤمن. ولكنها في إطار العدل الإلهي. إذن فلكلٍ المعاملة التي تناسب موقعه من الإيمان.والمقابلون للمجرمين هم المؤمنون. فإذا استبنت سبيلَ المجرمين، أو إذا استبان لك سبيلُ المجرمين ألا تعرف المقابل وهو سبيل المؤمنين؟.وحين يذكر الحق شيئاً مقابلاً بشيء فهو يأتي بحكم شيء ثم يدع الحكم الآخر لفهم السامع، فإذا كان الحق بين سبيل المجرمين لعناً وطرداً، فسبيل المؤمنين يختلف عن ذلك، إنه الرحمة والتكريم. ومثال على ذلك- والله المثل الأعلى- أنت تقول للتلميذ الذي يواظب على دروسه ويذاكر في وقت فراغه من المدرسة: إن سبيلك هو النجاح. ومن يسمع قولك هذا يعرف أن الذي لا يواظب على دروسه ولا يذاكر في وقت فراغه من المدرسة تكون عاقبة أمره الرسوب والخيبة.وهكذا يترك الحق لفطنة السامع لكلامه أن يأتي بالمقابل ويعرف أحكام هذا المقابل: فإذا كان الحق قد قال: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المجرمين} فهذه إشارة أيضاً لسبيل المؤمنين من رحمة وتكريم. ونعلم أن القرآن قد جاء على أبلغ الأساليب. وهي أساليب تقتضي أن تعرف معطى كل لفظ وكل حرف حتى نفهم مقتضيات المقامات والحالات التي تطابق كل مقام. ومثال على ذلك قول الحق سبحانه: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ} [آل عمران: 13].لقد ترك الحق لفطنة السامع لهذه الآية أن يعرف أن الفئة الكافرة تقاتل في سبيل الشيطان، وأن الفئة التي تقاتل في سبيل الله هي الفئة المؤمنة، وترك لنا الحق أن المشهد العظيم يعرفون قدر كذبهم في الدنيا، فلا ملك لأحد إلا الله، ولا معبود سواه، فينطقون بما يشهدون: (والله ربنا ما كنا مشركين).ولقائل أن يقول: ولكن هناك في موضع آخر من القرآن نجد أن الله يقول الحق مثل هؤلاء: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 34-36].إنهم في يوم الهول الأكبر يعرفون أنهم كذبوا في الدنيا، وهم لا ينطقون بأي قول ينفعهم، ولا يأذن لهم الحق بأن يقدموا أعذاراً أو اعتذاراً. ونقول لمن يظن أن المكذبين لا ينطقون: إنهم بالفعل لا ينطقون قولاً يغيثهم من العذاب الذي ينتظرهم، وهم يقعون في الدهشة البالغة والحيرة، بل إن بعضاً من هؤلاء المكذبين بالله واليوم الآخر يكون قد صنع شيئاً استفادت به البشرية أو تطورت به حياة الناس، فيظن أن ذلك العمل سوف ينجيه، إن هؤلاء قد يأخذون بالفعل حظهم وثوابهم من الناس الذين عملوا من أجلهم ومن تكريم البشرية لهم، ولكنهم يتلقون العذاب في اليوم الآخر لأنهم أشركوا بالله. ولم يكن الحق في بالهم لحظة أن قدموا ما قدموا من اختراعات، ولذلك يقول الحق: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب} [النور: 39].وهكذا نعلم أن أعمال الكافرين أو المشركين يجازيهم الحق سبحانه عليها بعدله في الدنيا بالمال أو الشهرة، ولكنها أعمال لا تفيد في الآخرة. وأعمالهم كمثل البريق اللامع الذي يحدث نتيجة سقوط أشعة الشمس على أرض فسيحة من الصحراء، فيظنه العطشان ماء، وما إن يقترب منه حتى يجده غير نافع له، كذلك أعمال الكافرين أو المشركين يجدونها لا تساوي شيئاً يوم القيامة. والمشرك من هؤلاء يعرف حقيقة شركه يوم القيامة. ولا يجد إلا الواحد الأحد القهار أمامه، لذلك يقول كل واحد منهم: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}.إن المشرك من هؤلاء ينكر شركه. وهذا الإنكار لون من الكذب.مشخص يميزه عن الجنس الآخر إما بارتفاع ترق وإما بنزول تدن. وقمة أجناس الوجود هو الإنسان الذي كرمه الحق بالحس والحركة والتفكير. ويلي الإنسان مرتبة جنسُ الحيوان الذي له الحس والحركة دون التفكير. ويلي جنس الحيوان مرتبة النبات، وهو الذي له النمو دون الحركة والتفكير.وعندما تُسلب من النبات غريزة النمو يصير جماداً. إذن ترتيب الأجناس من الأعلى إلى الأدنى هو كالتالي: الإنسان ثم الحيوان، ثم النبات ثم الجماد. وكل جنس من هذه الأجناس له خصائصه، ويأخذ الجنس الأعلى خاصية زائدة.وأدنى الأجناس هو الجماد الذي يخدم النبات، والنبات يخدم الحيوان والإنسان. والحيوان يخدم الإنسان، وهكذا نجد أن أعلى الأجناس هو الإنسان بينما أدناها هو الجماد. فكيف يأخذ أعلى الأجناس وهو الإنسان رباً له من أدنى الأجناس وهو الجماد؟إن تحكيم الفطرة في ذلك الأمر ينتهي إلى حكم واضح هو سخف هذا اللون من التفكير. وفطرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل البعثة هدته إلى رفض ذلك، وجاءت البعثة لتجعل من إلف عادة رسول الله وفطرته أمر عبادة للرسول صلى الله عليه وسلم ولكل من اتبعه. {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ} [الأنعام: 56].إذن فمسألة عبادة المشركين للأصنام لا تنبع من هدي ولكنها خضوع إلى هوى؛ لأن الهدي هو الطريق الموصل للغاية المعتبرة، والهوى هو خواطر النفس التي تحقق شهوة. ولهذا نرى بعضاً من الذين يريدون إضلال البشر قد خرجوا بمذاهب ليست من الدين في شيء، مثل القاديانية والبهائية والبابية، وغير ذلك من تلك المذاهب، هؤلاء الناس يدعون التدين، وعلى الرغم من ذلك يقدمون التنازلات في أمور تمس الأخلاق، ورأينا مثل ذلك في بعض من القضايا التي نظرتها المحاكم أخيراً، كالذي يدعي التدين ويقبِّل كل امرأة، ولا ينظم العلاقة بين الناس بقواعد الدين، ولكن يطلق الغرائز حسب الهوى. وذهب إليه أناس لهم حظ كبير ومرتبة من التعليم، وقد أوهموا أنفسهم بخديعة كبرى، وظنوا أنهم أخذوا بالتدين، بينما هم يأخذون حظ الهوى المناقض للدين. {لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ المهتدين} [الأنعام: 56].أي أنك يا رسول الله عليك بإبلاغ هؤلاء المشركين أنك لا تتبع أهواءهم التي تقود إلى الضلالة؛ لأن من يتبع مثل تلك الأهواء ينحرف عن الحق، ولا يكون من المهتدين.ومن بعد ذلك يقول الحق: {قُلْ إِنِّي على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي...}.